آيا صوفيا.. ماذا تعلم عن تحفة البوسفور

حقبة تاريخية طويلة لا تزال تسكن هذه التحفة المعمارية المتربعة وسط مدينة إسطنبول التركية، بعمر يناهز 1500 عام، متباهية تروي قصص العصور الغابرة ومشرعة أبوابها لكل من يرغب بتذوق السحر القديم ليغرق في عبق التاريخ.

آيا صوفيا الكنيسة والمسجد والمتحف لا تزال تستقبل زوارها من الزهاد المتعبدين، أو السياح المستكشفين، فخورة بكونها تحفة فريدة جمعت بين الفن العثماني والبيزنطي الأمر الذي جعلها من أهم الآثار في العالم، كونها تتميز بمزج ساحر بين الحضارات والأديان، ولها صنفت من أفضل عشر أماكن سياحية في اسطنبول.

يعد التناغم الحضاري والمزج الديني الذي يتمثل في آيا صوفيا لغزاً محيراً للكثير من الناس، إذ يمكنك مشاهدة أيقونة السيدة مريم وسط الآيات القرآنية المكتوبة بالخط العربي الجميل، في تداخل وامتزاج يسمو بالأرواح إلى ما فوق الأديان والأعراق.

ماذا تعلم عن آيا صوفيا؟ وما سر السحر الكامن بين جنباتها، وماذا عن تاريخها؟

كيف يمكن لمكان واحد أن يتحول من كاتدرائية إلى مسجد ثم متحف، ليعود بعدها مسجداً يقصده كل الناس؟

سنتحدث في مقالنا هذا عن تحفة البوسفور، مسجد آيا صوفيا، تأسيسه، والمراحل التي مر بها.

 آيا صوفيا
آيا صوفيا

محطات آيا صوفيا عبر العصور:

  • المحطة الأولى، آيا صوفيا ككنيسة:

بدأت القصة في عام 306 قبل الميلاد، حين كان الامبراطور قسطنطين الأكبر هو أول من بنى ما يسمى بالكنيسة الكبرى، والتي تعرضت للتدمير لتتم إعادة بنائها بعد ذلك مرتين.

في العصر البيزنطي، قرر الامبراطور جستنيان الأول إعادة بناء الكنيسة المهدمة في القسطنطينية في عام 537 للميلاد، وأطلق عليها اسم ميجالي أكليسيا بمعنى الكنيسة الكبيرة، محاولاً إثبات تفوقه على أسلافه من الرومان بتشييد صرح معماري متفرد يصعب تقليده.

ثم تمت إعادة تسميتها بـ “آيا صوفيا” بمعنى الحكمة الإلهية أو المقدسة في القرن الخامس الميلادي.

استخدم الامبراطور جستنيان كل إمكانياته في تزيين هذه الكنيسة وزخرفتها، حيث وظف أفضل المعماريين والفنانين، واستخدم الرخام بكل ألوانه وأنواعه، وأحضر أحجار الزينة الباهظة من مختلف المناطق، كما اعتمد أيضاً على الذهب والفضة والزجاج لرسم الفسيفساء على الجدران بطريقة هندسية ساحرة.

وهكذا استمرت مركزاً للكنيسة الأرثوذوكسية، على اعتبارها أكبر وأعظم كاتدرائية مسيحية في العالم أجمع لمدة 900 عام.

  • المحطة الثانية، آيا صوفيا كمسجد:

عندما سقطت مدينة القسطنطينية في يد الاحتلال العثماني، في عهد السلطان محمد الفاتح عام 1453، أصدر السلطان أمراً بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد بعد أن كان كنيسة، وكانت تأدية أول صلاة جمعة في المسجد بعد دخول السلطان الفاتح إلى المدينة مباشرة، ولهذا ارتبط مسجد آيا صوفيا بفتح القسطنطينية.

أمر السلطان محمد بتغطية النقوش والأيقونات المسيحية، وأضاف إليها السمات والتفاصيل الإسلامية كالمحراب والمنبر والمآذن الأربع.

واستمر مسجد آيا صوفيا بصفته “الجامع الكبير”، مركزاً دينياً هاماً، ومسجداً رئيسياً أُلحقت به مدارس إسلامية في مدينة القسطنطينية لمدة 431 عاماً.

  • المحطة الثالثة، آيا صوفيا كمتحف:

في عام 1934 قام رئيس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة بإصدار مرسوم رئاسي، يقتضي تحويل آيا صوفيا من مسجد إلى متحف أثري فني وإهدائه للإنسانية جمعاء.

أدرجت على إثرها في ثمانينيات القرن الماضي على لائحة التراث العالمي لدى منظمة الأمم المتحدة، لتصبح معلماً سياحياً جذاباً يقصده الناس من كل أنحاء العالم.

  • المحطة الرابعة والأخيرة، آيا صوفيا كمسجد مجدداً:

في العصر الحديث وقع رجب طيب أردوغان الرئيس التركي مرسوماً يقتضي تحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد مجدداً، معلناً افتتاحه أمام المسلمين في تاريخ 24 تموز عام 2012، الذي يوافق ذكرى فتح القسطنطينية، ويرفع فيه الأذان لأول مرة بعد 74 عاماً.

 

ماذا تعرف عن آيا صوفيا؟

بني مسجد آيا صوفيا عند مدخل مضيق البوسفور في القسم الأوروبي من مدينة اسطنبول، في منطقة السلطان أحمد تحديداً، قريباً من الجامع الأزرق الشهير، وقريباً من قصر توب كابي الشهير الذي يضم آثار الرسول صلى الله عليه وسلم.

ويعتبر إرثاً حضارياً ومعلماً أثرياً، يبرز التنوع الديني والحضاري حتى تم إدراجه ضمن قائمة التراث العالمية لدى منظمة اليونيسكو.

بمجرد وصولك إلى حديقة مسجد آيا صوفيا ستغرق في أجواء روحانية لا تمت لعصرنا الحديث بصلة، حيث الأشجار المنتشرة، والرخام الفخم المتنوع وأشكال الأحجار الكريمة الملونة المميزة، وأشكال الزخرفة المتقنة التي ستستحوذ على اهتمامك، منذ دخولك وحتى تصل إلى حرم المسجد الداخلي.

يضم مسجد آيا صوفيا العديد من الزخارف الإسلامية ” مثل اسم لفظ الجلالة الله، واسم النبي محمد عليه الصلاة والسلام، عمر، أبو بكر وعثمان، علي والحسن والحسين”، والكثير من الآيات القرآنية، إضافة إلى الأيقونات المسيحية الموجودة أعلى السقف “مثل أيقونة العذراء والسيد المسيح” وصور العائلة المقدسة.

تغطي الجدران لوحات الفسيفساء البيزنطية المرسومة بدقة، وتنتشر القباب الذهبية التي تمزج بين الطراز الإسلامي والمسيحي حيث يبلغ ارتفاع كل منها 55 متراً، إضافة إلى المحراب والمآذن الأربع الشهيرة، والعديد من الأعمدة الأثرية الملتفة الضخمة،

يتميز المسجد بوجود تسع أبواب منتشرة على كافة أطرافه، كما أنه يضم قبور بعض السلاطين العثمانيين.

يعتبر مسجد آيا صوفيا من أكثر المعالم السياحية جذباً للزوار، كونه أعجوبة من حيث هندسة بنائه وروحانية مزيجه الديني، فيستقطب الملايين من الزوار كل عام.

يمكنك عند زيارة المسجد التجول في كل أنحاء المسجد والاطلاع على أسرار العصور العريقة، ويمكنك التقاط بعض الصور التذكارية داخل أو خارج حرم المسجد، كما أن اقتناءك لبعض التذكارات من المتاجر المحيطة يعد أمراً رائعاً حقاً.

يعد مسجد آيا صوفيا “تحفة البوسفور” أفضل شاهد على روعة الحضارة القديمة، بداية من العمارة البيزنطية وحتى تفاصيل الزخرفة الشرقية، كما أنه يعد أيقونة سلام إذ يضم بين جدرانه رموز الديانات جنباً إلى جنب في إشارة واضحة إلى جوهر الإنسانية الحقيقي.